فهو من حيث العلم بحر لا ساحل له . ومن حيث التحرر الفكري من ربقة التقليد لا يشق له غبار . ومن حيث رجاحة العقل فله فيه القدح المُعَلى , ومن حيث سمو ونصاعة الروح وإشراقها فهو شبيه طيفور بن عيسى أبي يزيد البسطامي . ومن حيث الصفات النفسية الفاضلة فهو آية في الجمال والكمال البشريين . فهو ليس عالماً فقط ولكنه انسان أيضاً ورجل بكل ما تحمل معاني هذه الكلمة من أبعاد .. حتى أنك حين تقرأ له لابد وأن تستفيد منه في خبراتك في الحياة العملية وفي التعامل مع الناس !! فهو يؤثر فيك وينضجك ويضحكك ويُبكيك لا سلكيّاً من على بُعد عشرة قرون أو ألف سنة ! فلا يمنع جدار الزمان من وصول خيره إليك ببركة إخلاصه وكمال عبوديته لمولاه .
يقول سيدي علي بن عبد الجبّار الشاذلي رضي الله عنه لتلميذه النجيب أبي العباس المُرسي : يا أبا العباس إن كانت لك حاجة عند الله فأقسم عليه بأبي حامد الغزالي .
أبو حامد الغزالي هو أعظم مفكر في الإسلام على الإطلاق .
ومهما حاولت أن أشرح تعليل أو سبب هذه العبارة فلن أستطيع في هذه العُجالة لأن هذا يحتاج إلى رسالة ماجستير أو دكتوراه على أقل تقدير .
وإذا كان الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم ( ناشر ومحقق تراث ابن تيمية ) قد ألف رسالة عنوانها ( مقارنة بين الغزالي وابن تيمية ) صدّرها بقوله : ولا أدعي حياداً كاذباً في هذا الكتاب , بل أنا منحاز إلى مدرسة ابن تيمية .اهـ : فنحن نقول ونحن لا ندعي حياداً كاذباً بعد معرفتنا بتراث ابن تيمية وفكره الذي فيه الغث والسمين , فنحن منحازون أشد الانحياز إلى مدرسة أبي حامد الغزالي رحمه الله ورضي عنه . فهي مدرسة الوسطية والحكمة والعقل والتأمل والتدبر وإنصاف المخالف والبعد عن التكفير قدر الإمكان وكلها معان قد أمر بها القرآن والسنة . بخلاف مدرسة ابن تيمية في أحيان كثيرة بلفي الأعم الأغلب .
أحياناً أسأل نفسي : كيف يؤثر شخص واحد في الملايين في كل أجيال البشر من بعده بهذا الشكل ؟ لابد وأن يكون عقله صالحاً للبقاء بقدرة الله إلى قرون متطاولة ! وهكذا كان أبو حامد ..
والحقيقة أنا أتخيل شكل حجة الإسلام وجهه وهيئته العامة وأستشعرها , فقد قالوا عنه أنه قبل سلوكه الطريق إلى الله ومعرفته بالتصوف كان أساتذة المدرسة النظامية يُشبّهونه بالطاووس بينهم لشدة إعجابه بنفسه وازدرائه لغيره .. ولكن قد شرح أبو حامد سبب هذا بعد ذلك في كتبه التي صنفها في التزكية وأن علماء عصره قوم أكّالون متأكلون طالبوا دنيا .. فتأمل قوله في كتابه الفذ الذي أكثر النقل عنه ابن قيم الجوزية ( جواهر القرآن ) بعدما شرح جملة من أسرار الخلق وحكمة الله عزوجل في خلقه , ثم قال :
( وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصى في أعمار طويلة أعني ما انكشف للآدميين منها وأنه ليسير بالاضافة الى ما لا ينكشف واستأثر هو والملائكة بعلمه وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب الشكر وكتاب المحبة فاطلبه ان كنت له أهلا والا فغض بصرك عن آثار رحمة الله ولا تنظر اليها ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرج فيه واشتغل بأشعار المتنبي وغرائب النحو لسيبويه وفروع ابن الحداد في نوادر الطلاق وحيل المجادلة في الكلام فذلك اليق بك فان قيمتك على قدر همتك ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (هود : 34 ) .. ) اهـ .
هذا هو أبو حامد الغزالي رحمه الله .. لقد كان رحمه الله ناقداً لاذعاً ومربياً بارعاً مؤثراً في كل من يتصل به .
وكان في بداية أمره منشغلاً بزخرف الدنيا بحكم مكانته في مجتمع ( بغداد ) وما أدراك ما بغداد مدينة السلام , ومقر الخلافة , وعاصمة الحضارة الاسلامية في الأرض يومئذ , وكان أبو حامد ملء السمع والبصر فيها وبمنزلة وزير أو أكثر دعك من أستاذ في الجامعة فهذا في حقه قليل يومها ..
ثم اتجه بالعناية الربانية إلى سلوك طريق التصوف - كما حكى في كتابه النفيس المنقذ من الضلال - يقول رحمه الله :
( ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، ولاحظت عملي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من تسعة أشهر، أولها رجب سنة (488هـ)، ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، أظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أضمر في نفسي سفر الشام؛ حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقتُ بغداد ) .
فخرج الغزالي يريد الشام في الباطن، وأظهر للناس أنه يريد الحج في الظاهر، ويبدو أنه كان تواقاً إلى العيش في الشام، والدليل على ذلك أنه عزم في نفسه على أن لا يعود إلى بغداد أبداً. يقول:
( ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة ) . فخرج الغزالي إلى مكة، فالمدينة، فدمشق، فالقدس، فدمشق، فالإسكندرية، ثم عاد إلى بغداد , واجتهد في هذا الطريق بما أعطاه الله من نصيبه في القوة والعزم حتى انقشعت عن قلبه غيوم حب الدنيا , وكُشِفَ لهُ في خلوته - كما قال - عن مكانة طائفة الصوفية وأنها أفضل طوائف المسلمين ..
وهو مع ذلك ومع هذه الأذواق , لم يكن بمعزل عن الأخذ بناصية العقل , بل كان رحمه الله من أكبر فلاسفة عصره وربما عصور الاسلام كافة .
فهو يجمع بين الذوق الروحي وبين عُمق التحليل الفلسفي لكل المشكلات التي يطرقها في كتبه , وكل مصنفاته عبارة عن كتب جامعة مانعة يغني الواحد منها عن مكتبة بأسرها لتنوع أقسامه وعُمق أفكاره , وبراعة حلوله وطروحاته . واقرأ على سبيل المثال كتابه ( الأربعين في أصول الدين ) ستجد أن الكتاب عبارة عن أربعين قاعدة من قواعد أصول الدين ودعائمه وأسسه مترابطة وَفْق أربعة أقسام :
القسم الأول : في أصول العقائد التي ينبني عليها الدين ، والتي هي الخطوة الأولى فيه ومنها ينطلق .
والقسم الثاني : في الأعمال الظاهرة والعبادات ، حيث شرحها شرحاً وافياً اتضحت من خلاله معالمها وأسرارها .
والقسم الثالث : في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة ؛ تخليةً لها مما لا يرضي مولاها ، وتهيئةً لها كي تكون صالحة ممهَّدة للأنوار الإلهية والمعارف الربَّانية .
والقسم الرابع الأخير : في تحليتها بالأخلاق المحمودة بعد تخليتها .
وقد نهج نفس النهج في كتابه إحياء علوم الدين , ولكنه في كتاب الأربعين قد جمع خلاصة كتبه وخبراته بعد عمر طويل ومراس وتجربة غنية وحياة حافلة .
ومثل كل العظماء على الأغلب : عاش مرحلتين من حياته , كما هو حال كثير من أذكياء العقول والقلوب , لابد وأن يولدوا مرتين كما قال السيد المسيح , مرة يوم نزوله من بطن أمه , ومرة يوم انفصاله عن مشيمة وغلاف الأوضاع والرسوم والأفكار القائمة السائدة في عصره , فهي ولادة يتبعها ختان حقيقي ولكن هذه المرة ختان لغلفة القلب , ومن لم يمُر بهذه الولادة فليعلم أنه أغلف القلب له شبه بمن قال ( قلوبنا غُلف ) فلا يفرح كثيراً بنسبه .
ولكن هذا لم يكن حال أبي حامد الغزالي , بل كان ناقداً بصيراً لمواطن الخلل والعطب في عصره , كما هو حال كل العباقرة المجددين , مثل الأستاذ مجدد الاسلام في تركيا ( سعيد النورسي ) فهو يسمي نفسه أحياناً في كتبه بإسمين , فيقول قال : ( سعيد القديم ) و ( سعيد الجديد ) ..
ولا يستطيع ولا يمسك الخروج عن أغلال المذاهب والبيئات والعلاقات الاجتماعية والسلطات الدينية إلا عالم بلغ الغاية في الإخلاص والتفاني في حب الله والتضحية بالنفس والجاه من أجله .. وهذا هو القتل البطئ للنفس الأمارة بالسوء , والذي يعبر عنه الصوفية بقولهم : موتوا قبل أن تموتوا . فهذه هي الشهادة في سبيل الله ولو مات صاحبها على فراشه .. وقد مر أبو حامد بكل طبقات ومراحل هذه الرحلة الشاقة للانتصار على النفس الفرعونية حتى انتصر عليها بمعونة ربه وانكسرت قيوده وأغلاله عن قلبه وطار في صحبة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا ...
فبماذا رضي وقنع من الدنيا ( الوزير ) أو ( طاووس العلماء ) في الماضي ؟!
يقول القاضي أبو بكر بن العربي تلميذه: ( رأيت الغزالي في البرية - وهي صحراء دمشق - وبيده عُكّازة ، وعليه مِرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم ، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام ! أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا ؟ فنظر إليَّ ثم قال:
لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة ..
وجنحت شمس الوصول في مغارب الأفول .
تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل *** وعدت إلى تصحـيح أول منزل
ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه *** منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد ** لغزلي نسـاجاً فكســرتُ مِغزلي ) اهـ .